رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب: ما المكاسب التي ستجنيها المصارف السودانية؟
عندما رفعت واشنطن، قبل ثلاثة أعوام، العقوبات الاقتصادية التي فرضتها لمدة عقدين من الزمن على السودان، لم تكن التوقعات الكبيرة حيال أثر هذا القرار على الاقتصاد السوداني واقعية أو موضوعية. إذ إنه على الرغم من زوال العوائق القانونية أمام الاستثمار في السودان، إلا أن المصارف والمؤسسات المالية العالمية والمستثمرين الدوليين كانوا لا يزالون يخشون القيام بتعاملات تجارية مع بلد تُدرجه الولايات المتحدة ضمن قائمتها السوداء. فقد حرمَ بقاء اسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب البلاد من موارد دولية كانت ستساعد الاقتصاد على التعافي من التدهور.
وأسفرَ إحجام المصارف الدولية عن إجراء التحويلات المالية من وإلى المصارف السودانية، بسبب وضع البلاد على هذه القائمة، عن تفاقُم النقص الحاد في موارد الدولة من العملات الأجنبية، ما نجمَ عنه اتّساع رقعة التعاملات والمضاربات بالنقد الأجنبي في السوق الموازية وارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الجنيه السوداني بصورة هائلة ومستمرة. وازدادت وطأة أزمة البلاد الاقتصادية منذ يناير/ كانون الثاني الماضي، وأصبحت رؤية طوابير السيارات أمام محطات الوقود وصفوف المواطنين طلباً للخبز، أمراً عادياً في شوارع الخرطوم.
وفي حين ظلّ اقتصاد السودان منذ مطلع الألفية الجديدة وعلى مدى عقد من الزمن يسجل نمواً متزايداً حتى بلغ %6 في عام 2010، أخذ في التراجع بعد ذلك. وظهرت الأزمة، المستفحلة حتى الآن، على السطح عقب عام 2011 عندما انفصل جنوب السودان آخذاً معه ما مقداره 75% من عائدات النفط، ليبدأ منذ ذلك الحين احتياطي البلاد من العملات الأجنبية في التراجع بصورة مضطردة. وتَجسّد عُمق الخلل الهيكلي في الاقتصاد السوداني في أزمة النقص الحاد في السيولة النقدية التي ضربت البلاد عام 2018، والتي عزاها الخبراء الاقتصاديون إلى التضخم وتسارُع تدهور قيمة الجنيه السوداني أمام العملات الأجنبية، ما دفع البنك المركزي إلى اتّباع سياسة تقييد المعروض النقدي لدى المصارف التجارية بهدف حماية الجنيه في ظل افتقار السلطات المالية الرسمية إلى آليات السوق للسيطرة على سعر الصرف.
واقع المصارف السودانية
يرتبط الواقع المعقد الذي تعمل فيه المصارف السودانية، بشكل عام، بالتعقيدات البنيوية المتداخلة التي يعيشها الاقتصاد السوداني. ويعكس أداء هذه المصارف القيود العديدة التي فرضتها عليها عوامل مثل تقلّب السياسات النقدية والمالية وعدم استقرارها، وتخوّف المودعين من تآكل قيمة الأرصدة المالية نتيجة تزايد معدلات التضخم بصورة هائلة ومتسارعة، وتدنّي الوعي المصرفي في كثير من مناطق السودان ما يؤدي إلى تداول القدر الأكبر من الكتلة النقدية خارج النظام المصرفي. غير أنّ تجربة بعض المصارف السودانية الخاصة، مثل بنك فيصل الإسلامي، تُدلّل على أنّ تسخير الابتكار في تقديم الخدمات المصرفية الجاذبة والمنتجات المالية المتطورة، من شأنه أن يدفع البنوك السودانية المرموقة إلى الحد من آثار هذه القيود على عملياتها، بما يدفعها إلى اكتساب ثقة المتعاملين وتحقيق النجاح. لكنّ الحال ليس كذلك لأغلبية المصارف الحكومية التي تعاني من هشاشة مركزها المالي وضعف قدراتها الرأسمالية ومحدودية محفظاتها التمويلية، فضلاً عن غياب دورها وانخفاض أدائها في دعم التنمية الاقتصادية في البلاد، ويكفي تجسيداً لواقع المصارف الحكومية إقدام لجنة “إزالة التمكين ومحاربة الفساد واسترداد الأموال”، التي كُوّنت بعد الإطاحة بنظام الحُكم السابق، على حل مجالس إدارة 12 مصرفاً حكومياً وإعفاء مديري 9 مصارف قبل أشهرٍ قليلة.
وتعكس هذه المعطيات حاجة النظام المصرفي في السودان إلى إجراء إصلاحات جذرية، لن تتم بطبيعة الحال بمعزلٍ عن الإصلاحات المطلوبة على مستوى الاقتصاد الكلي، لا سيما البنوك الحكومية، التي تشير الكثير من الشواهد والدلائل إلى وجود أوجُه خللٍ بأنظمتها الإدارية والتشغيلية تتطلب معالجتها، خاصةً فيما يتعلق بالافتقار إلى الشفافية والعدالة في توزيع التمويل استناداً إلى احتياجات القطاعات الاقتصادية المختلفة ومتطلباتها، والحرص على تسيير هذه المصارف وفق مقتضيات معايير الحوكمة العالمية، وتوخّي استقلالية الجهاز المصرفي وضمان فعالية القوانين واللوائح والرقابة.
الآثار السلبية على المصارف السودانية من وجود السودان في هذه القائمة
أسهمَ وجود اسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، بصفة غير مباشرة، في إحداث فجوة النقد الأجنبي واستفحالها، الأمر الذي نجمَ عنه سيطرة السوق الموازية في تحديد سعر صرف العملات الأجنبية مقابل الجنيه السوداني، وما تسبّبت به المضاربات في الدولار الأميركي من زعزعة لاستقرار الاقتصاد والإضرار به. وما لم يخرج السودان من هذه القائمة، لم يكن بوسع بنك السودان المركزي ووزارة المالية تبنّي سياسات نقدية ومالية سليمة فيما يتعلق بإصلاح نظام سعر الصرف، إذ إنه لا يمكن للسطات الحكومية سد فجوة التمويل الخارجي (التي تُقدّر بحوالي 4.5 مليار دولار) الضرورية لخفض العجز في الحساب الجاري إلى الحدود الآمنة من الناتج المحلي الإجمالي.
وفضلاً عن ذلك، انقطعت علاقات البنوك الدولية المراسِلة مع المصارف السودانية، إلا في حدودٍ ضيقة، بسبب تجنّب البنوك والمؤسسات المصرفية الدولية الدخول في معاملات مالية مع المصارف السودانية، لما يمكن أن يترتب على هذه المعاملات من عقوبات تفرضها الحكومة الأميركية على المؤسسات التي تتعامل مع المؤسسات السودانية. وهذا ما حدث لبنك “بي إن بي باريبا” (BNP Pariba) الفرنسي، الذي تكبّد غرامة مالية ضخمة في عام 2014 بلغت 9.5 مليار دولار فرضها عليها مكتب مراقبة الأصول الأجنبية الأميركي لانتهاكه القواعد الخاصة بالعقوبات الموقعة على إيران والسودان وكوبا في الفترة ما بين عامَي 2002 و2009. وفي هذا الإطار نفسه، قطعت معظم البنوك المراسِلة لبنك السودان المركزي علاقتها معه. وكان من الطبيعي، في ضوء هذه المعطيات، أن تتدهور احتياطيات المصارف السودانية من النقد الأجنبي، وهو ما كان له بالغ الأثر على قدراتها على اجتذاب التحويلات المالية للسودانيين العاملين بالخارج والاستفادة منها، إلى جانب المصاعب العملية التي تواجهها هذه المصارف في وصول حصائل الصادر إلى السوق الرسمية. وبطبيعة الحال، ترتّب على ذلك ذهاب تحويلات السودانيين العاملين بالخارج، التي تقدّر حالياً بحوالي 6 مليارات دولار سنوياً، إلى السوق الموازية، ما أدّى إلى تفاقم الفجوة بين سعر الصرف الرسمي ونظيره في السوق الموازية واتّساعها بصورة متزايدة.
المصارف السودانية بحاجة إلى إحداث التحول الرقمي
تأثرت المصارف السودانية بإدراج السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، شأنها في ذلك شأن جميع القطاعات الاقتصادية الأخرى. وبوسع هذه المصارف الآن بعد رفع اسم السودان من القائمة العمل على ردم الهوة التكنولوجية الهائلة كي يتسنّى لها اللحاق بركب الاندماج العالمي واغتنام مكاسب التطور التقني الحديث. إذ إنّ الفرص التي يمكن للمصارف السودانية الاستفادة منها الآن تبدو واسعة ومبشّرة، فقد كان وجود اسم السودان في القائمة السوداء يحرمها من مجموعة مقدّرة من التقنيات المتقدمة التي تشمل قواعد البيانات وأنظمة التشغيل والأجهزة والبرمجيات الوسيطة اللازمة لنقل المعلومات والبيانات وتبادلها وتوزيعها. ومن شأن ذلك تعزيز قدرة المصارف السودانية على إحداث التحول الرقمي بتطبيق التقنيات المالية المتطورة، واغتنام فرص تقديم خدمات مالية لم يكن بوسعها تقديمها في السابق، إذ قطعت بعض المصارف شوطاً في هذا الجانب، مثل بنك فيصل الإسلامي، الذي حصل على رخصة إصدار وتقديم بطاقات الدفع العالمية من شركة “فيزا” الشهيرة، وهو ما يُعد طفرة مستحدثة في أدوات ووسائل الدفع والمعاملات المالية الرقمية على الصعيد الوطني. وهكذا، فسيكون للمصارف السودانية القادرة على المواكبة والتطوير والابتكار الأفضلية في تحقيق الاندماج في النظام المصرفي العالمي، بما يعود عليها بالنفع وعلى اقتصاد البلاد ككل بالانتعاش.
المكاسب التي ستجنيها المصارف السودانية
من المؤكد أن يترتب على إزالة اسم السودان من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب تمكين السودان من استعادة علاقاته التجارية والاقتصادية مع العالم، وتسهيل العمليات المصرفية وإجراءات الصادرات والواردات. كما ستستأنف المؤسسات المالية بالبلاد تواصلها مع المؤسسات المصرفية والاستثمارية الدولية، لا سيما القطاع المصرفي الذي تأثر بشكل كبير بالحظر الاقتصادي ووجود السودان في هذه القائمة، بسبب تخوّف المؤسسات المالية الدولية من التعامل مع أي مؤسسة مالية سودانية خشية العواقب المترتبة على ذلك. ومن شأن رفع اسم السودان من هذه القائمة أن يعود بالفائدة على المصارف السودانية ببناء علاقات أقوى مع المؤسسات والبنوك الدولية، وبالتالي تسهيل إجراء المعاملات المالية على الصعيد الدولي، وهو ما يعني إمكانية أن تتم تحويلات السودانيين العاملين بالخارج عبر القنوات الرسمية المتمثلة في المصارف التجارية، مما سيساعد في نهاية المطاف على انتعاش الاقتصاد السوداني وتجاوزه هذه الفترة الحرجة.