في ذِكْرَى رحيله.. محمود عبد العزيز ألهمَ جيلاً كاملاً معاني الجمال والحرية والانعتاق

**

وكان صوت الولد طالِع

بُشارة وتذكِرة وعنوان

وكان يا حوتة ليل مَغناك

جراحو وضحكتك سِيّان

وكان خوف الوجع منّك

تنِشِّف رِيقنا بالأحزان

رحَلت، وشُوف غُناك حاضِر

نبارِي صداهو وين ما كان

**

جرحك النديان ونازِف
في الحنايا وما بنقولو
غيمك السّافر بعيد، ليه؟
كنّا منتظرين هطولو
زفّة اوجاعك مراسِم
والحُزُن دقّت طبولو
والغُنا البكّاهو موتك

كنتَ سلطانو ورسولو
**
لي وين رحيلك في زمان
ليلو أطول من نهارو
والغياب يا حوته كيفِن
نِحن نستحمَل ودارو
حوته شِقّيش المسير
نيلنا كيف غيَّر مسارو؟
وطيف غناوِيك اللُّطاف
تاني كيفِن اجتِرارو؟
**
سُقتَ أحزانك مراكِب
فارِد ايّامِن شِراع

وأغنياتَك، في الغياهِب؛

ضَيَّهِن كان الشُّعاع
آنَسَنْ ليل الشجون
فينا حَد المستطاع
بس نسيت قبل الرحيل
حوته ليه.. لحن الوداع؟

 (قيس الصديق)

**

في تجربةٍ ثارَ حولها، وانطوى عليها، جدلٌ كثيف؛ من حيث ما صَنَعَته من أصداء، وما خلّفَته من تأثير، وما حازت عليه من اهتمام، وما حُظِيت به من احتفاء، وما سَمَقت إليه من مجد، وما بلغته من شأوٍ، وما ارْتَقت إليه من آفاق، امتدّت مسيرة الفنّان الرّاحل – والمغفور له بإذن الله – محمود عبد العزيز؛ الحوت، كما اشتُهِرَت تسميتُه، ربعَ قرنٍ من الزّمان، ظلَّ فيها يصدحُ بالغناءِ والصّهيل، فيُبهجَ الأسماعَ بالتّطريب، ويهِزّ الأفئدة بالتغريد، ويُشجِي الأرواحَ بشَدْوٍ كأنّه عُصارة أنسامِ الأسحار النّديّة، وصوتٍ كأنّه انعكاسٌ لذوبان الذّهب في الحناجر.

كان الحوت يُغنّي؛ فتطربَ المقاعدُ في “نادي التّنس” و”نادي الضبّاط” و”النّادي القبطي”. ويُغنّي محمود؛ فتتحرّك القلوب شغفاً، وتهتزَّ الخوافق في الحنايا طرباً، وتنفجر الجموع الحاضرة بالآلاف صِياحاً واندياحاً ونشيجاً، وتجيش دواخل كثير من الجالسين والواقفين والعابرين والمشدوهين، بما يفوق احتمالهم من مشاعر الحُبِّ والهوَس؛ فيبكي مَن يبكي، ويصرخ مَن يصرخ، ويخلع قميصه مَن اشتدت عليه وطأة الولع واستبدَّ به سلطان الحوت، مُلوّحاً في هيستيريا وصائحاً بجنون: حووووتة حووووتة!

غناءٌ مختلف، وحُبٌّ مختلف

كان غناءُ الحوت مُختلفاً، بمثلِ ما كان حُبُّ النّاسِ له مُختلفا. وعلى ما أوتِيَ من شُهرةٍ واسعة، وما ذاعَ له من صيتٍ واسم، وما اكتسبه من مجدٍ، وما ارتقى له من مكانة، كان محمود بسيطاً ومتواضعاً وخجولاً و”حبّوباً”، منحَ حياته لفنّه، فمنحَه الفنُّ الرّوح المرهفة والإحساس الشّفيف والقلب المفتوح.

صنعَ محمود لنفسه جماهيرية لا تُنافَس. ملايين الشباب على امتداد السّودان التفّوا حوله ونصّبوه ملكاً متوّجاً على عرش الغناء، ونجماً أوّل للشبّاك، وفنّاناً أوّل للشباب.

كان محمود طيلة مشوار تجربته الفنيّة مُثيراً للجدل، منذ ظهوره، أواخر الثمانينات، وحتى رحيله المُفجع قبل ثمانية أعوام. لم يكُن يتوقف عن الغناء إلا ليُغنّي من جديد. أصدرَ محمود عدداً مهولاً من أشرطة الكاسيت التي لاقت جميعها رواجاً واسعاً وانتشاراً واضحاً، وحُظِيت بتداولٍ واحتفاءٍ كبيريْن، بشكلٍ أثارَ التساؤل عن سرِّ تميّز محمود عن نُظرائه، وانفراده بجمهورٍ عريض مجنون في تعلُّقه بفنّانه المفضّل وتعصّبه له، يُسمّون أنفسهم “الحوّاتة”؛ الذين بلغ من أمرِ حبِّهم لمحمود أنَّ البعضَ صار يقول إن الكيانات في السّودان ثلاثة: (الحوت، الهلال والمريخ)، في إشارة إلى القاعدة الجماهيرية الهائلة التي بزَّ بها محمود العمالقة ممّن سبقوه في حقل الغناء، وتجاوزَ بها أندادَه ممّن عاصروه.

الطريق نحو النجومية المطلقة

كانت بداية محمود في نهايات الثمانينات من القرن الماضي، ولكن انطلاقته الحقيقية كانت في النصف الأول من بداية التسعينات، تحديداً حين أصدر أول ألبوم له بعنوان “خلي بالك”، الذي استوقف المتابعين وأثار إعجاب النقّاد بنوعية الأغنيات المختلفة – نوعاً ما – عمّا كان سائداً في تلك الحقبة، لافتاً انتباههم إلى الخامة الصوتية القويّة التي يمتلكها هذا الشّاب ذو الجسد النّحيل.

وفي العام 1995 فاجأ محمود الوسط الفنيّ بألبوم مختلف تماماً عن ألبومه الأول. إذ كانت التجربة جديدة ومختلفة كلياً، من حيث الكلمات والألحان والتنفيذ الموسيقي بقيادة د.الفاتح حسين. كان ذلك في الكاسيت المُسمّى “سكت الرباب”. أتاحَ الألبوم الجديد لمحمود دخولاً مهرجانياً إلى الساحة الفنيّة من أرحب الأبواب. تزايدت شعبيّة الحوت وبدأ الجمهور يعشق صوته ويتصيّد أخباره وجديد أغانيه، فأتْبعَ محمود ذلك بألبوم “يا عُمُر”، وهو الألبوم الذي كان بمثابة خارطة الطريق وجواز السفر لمحمود نحو قلوب جمهور الشباب السوداني.

وحين أصدرَ محمود ألبوم “سِيب عنادك” كان قد اعتلى فعلياً قمّة هرم النجومية في ذلك الوقت وصار الرقم واحد في الوسط الفنيّ.

صارت تسجيلات محمود الفنيّة، جنباً إلى جنبِ ألبوماته الجديدة، هدفاً لآلاف الشباب الذين يقتنونها حالَ صدورها ونزولها إلى الأسواق، وأصبحتْ أغنيات محمود تُردّد في مختلف الأماكن؛ في الجامعات، ومجالس الأنس والسّمر، وفي المركبات العامّة، والكافتيريات المنتشرة في مدن العاصمة والأقاليم.

كانت هذه المرحلة فاصلة في تجربة محمود عبد العزيز الفنيّة، خطَى فيها النّجم النحيل خطوات عملاقة في مشوار النجومية المطلقة.

في ذات العام، أصدرَ محمود ألبوم “جواب للبلد” مع الفنانة حنان بلوبلو في تجربة دويتو، أظهر فيها محمود مقدراته في التعامل مع نمط مختلف من الأغنيات، وحققت التجربة نجاحاً نسبياً مقارنة بألبوماته السّابقة.

وفي العام نفسه، والجمهور لمّا يفِق بعدُ من دهشة “جواب للبلد”، فاجأ محمود الجمهور بالألبوم الضجّة “سبب الريد” الذي أحدثَ حرّكَ سكون الأوساط الفنيّة ووافقَ هوى المعجبين من عشّاق الحوت.

حينها، بدأ النّاس – وعشّاق محمود بصفة خاصّة – ينتبهون إلى تفاصيل أخرى في شخصيّته غير الأغاني؛ وهي الأزياء التي يرتديها الحوت في صوَر بوسترات ألبوماته. اندفعَ الشباب المهووسون بـ “استايل” نجمهم المحبوب في ذلك الزمان، إلى اقتناء أقمصة الكاروهات المخططة التي اشتُهِر بارتدائها، وارتبطتْ منذ ذلك الحين بالفنان محمود. بل إنّ طريقة مُعيّنة لقصِّ اللّحية على نحْوٍ دائري، أطلِق عليها “حوتة”، اشتُهِرت أيضاً في تلك الفترة وما تزال تسميتها مستخدمة بين الشباب.

بعد ذلك أصدرَ محمود ألبوم “يا مُدهشة” وأتبعه مباشرة بعد فترة زمنية قصيرة بألبوم “يا مُفرحة”، في خطوتين متواليتين زادَتا من جماهيريته والتفافِ الشباب حول مشروعه الفنيّ المختلف. وتواصل الإنتاج الفنيّ لمحمود حتى بلغ عدد ألبوماته التي رأتْ النور 29 ألبوماً لاقت جميعها نجاحاً لا نظير له.

الجوّ العام في التسعينيات

في ذلك الزمان التّسعيني، حين ملأتْ نجومية محمود الصّارخة الآفاق وشغلتْ النّاس والدّنيا، لم يكن الجو العام مُلائماً لتحريك الإبداع أو صالحاً لرعاية الفنون؛ حيث إنّ الإعلام (المرئي والمسموع والمقروء)، تركَ حينئذٍ وظيفة تحفيز المواهب وحُسن تقديمها واحتوائها، وانشغلَ بتروية أشواق السُّلطات إلى “تعبئة” الشّعب. تحوّل الإعلام، مُرغَماً أو باختياره، وبكلّ واجهاته ومنافذِه، إلى منابرَ للحثِّ على استنفار الشّباب للجهاد حمايةً  للوطن المستهدَف ودفاعاً عن الأمّة المنكوبة! وصارت الأناشيد التعبوية مواداً يوميّة للاستماع في الإذاعة، ومَشاهد دائمة على التلفاز، وعناوين راتِبة للصّحف. كانت أغانٍ من شاكلة ذلك النّشيد الذي يتوعّدُ أمريكا وروسيا بدُنُوِّ عذابهما معاً!

في خضَم هذه الأجواء المُعتِمة، سطع نجمُ محمود وسجّلت رحلته الفنيّة حضورها المتوهّج. اتّخذ محمود من إصدار الألبومات بكثافة، وإقامة الحفلات العامّة داخل العاصمة الخرطوم، جسراً ليصل إلى قاعدة جماهيره المنتشرة، فنشِطت في تلك الفترة مسارح “المكتبة القبطية الخرطوم، جامعة النيلين، قصر الشباب والأطفال، الهيئة القومية للثقافة (دار حزب الأمة الحالية)، ومسرح جامعة أمدرمان الأهلية” كأماكن لالتقاء محمود بجمهوره الذي بدأت تطفو – على بعض مُمارساتِه وسلوكِه – مظاهرُ التعصُّب نحو كل ما يتعلّق بنجمه المحبوب.

وامتثالاً لحالة الطوارئ وقتئذٍ، وقوانينها المعلَن منها والضمنيّ، لم يكن يُسمح بإقامة الحفلات ليلاً. لذا، كانت كل الحفلات العامة تُقام عصراً لوقتٍ قصير نسبياً. ورغم ذلك لم يتوقف محمود عن الغناء. ظلّ محمود يغنّي لمعاني الإنسانية المطلقة؛ لقيمِ الخيرِ والجمال والحياة؛ لجمهورٍ تختلط فيه كل طبقات المجتمع؛ من طلّاب الجامعات والثانويات، إلى الموظفين والعمّال والأفندية، إلى صبية الورنيش وأبناء الشّمس وأولاد الشّوارع.

تأثير محمود في الحركة الفنيّة

في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، وبعد أن ثبّت محمود مكانته فنّاناً أوّل من حيث النجومية ومبيعات الألبومات والإقبال على حفلاته والاحتفاء الشّعبي والجماهيرية الطاغية، ترتّبت على حالة الكاريزما الهائلة التي يمتلكها تأثيرات كبيرة على السّلوك الاجتماعي والثقافي السّائد في العاصمة، خاصّة لدى فئة الشّباب، بل اتّضح أنّ نظاماً فنيّاً جديداً بمقدّماته ومُلحقاته في طريقه لفرْض سطوته وبسْط ملامحه على كافة مناحي الحياة، فقد انتصرَ محمود بغنائه العذْب وصوتِه الأسطوري على كلِّ المعوِّقات والحواجز والعراقيل.

ما أصابَتْه ألبومات محمود من نجاحٍ كبير وإقبال متزايد، وما حُظِيَ به النّجم من التفاف الشّباب حول تجربته، وما ارتبط بكلّ ذلك من حِراكٍ فنيّ، رغم الأجواء القاتمة، شجّعَتْ هذه العوامل شركات الإنتاج الفنيّ على إنتاج الألبومات للمطربين الشّباب، فنشِطت شركات على رأسها “البدوي” و”السناري” للإنتاج الفنيّ، الشيء الذي خلق بيئة تنافسية بين الشركات الفنيّة، ما حدا بشركة “البدوي” لإبرام عقد احتكرتْ به الإنتاج الفنيّ لمحمود لسنوات عديدة.

كما أنّ المناخ العام الذي “طوّعَه” محمود ليُبدع فيه وينشر الأغاني ويقهر المستحيل، خلقَ لدى كثير من الشباب الواعدين الشّجاعة لتقديم أنفسهم، بعد أن عبَّدَ محمود أمامهم الطريق لتحقيق حلم الظهور والوصول إلى الجمهور، وألهمتهم تجربته في الصمود والاجتهاد حتى أقنعَ الجمهور والنقّاد بموهبته.

فضلاً عن ذلك، فإنّ النّجاح الذي حققته ألبومات محمود، والذي فاقَ توقعات النقّاد والمراقبين والمهتمين في الوسط الفنيّ، والرّواج التجاري الذي ساهمَ فيه، والأرباح الضّخمة التي حققها لشركات الإنتاج الفنيّ، حرّكَ شوق الموسيقيين ودفعَ فيهم الرّغبة للمساهمة في هذا الزّخم الفنيّ، فنفضَتْ بعض الفِرَق الموسيقية الغبار عن نفسها، وعرِف الوسط الفنيّ فِرقاً مثل فرقتَي “النّورس” و”البُعد الخامس”، كمجموعات موسيقية قامت في مرحلة ما بتنفيذ بعض أعمال محمود، وسمِع جمهور الشّباب لأوّل مرّة بأسماء مثل: “مليجي، ياسر أبكر، اسماعيل عبد الجبار، سيف كنّو” وآخرين، كانت أسماؤهم تظهر بصورة دائمة على أغلِفة ألبومات محمود، ليصيروا لاحقاً من الرموز الموسيقية المعروفة.

ساهمَ محمود أيضاً في ظهور مُطربين شباب كُثر وقدّمهم لأوّل مرة للجمهور، منهم علي سبيل المثال: جمال فرفور، مصطفى حمزة، معتز صباحي، وآخرين، كما أنّ “محمود” كان يسمح لفنانين في بداياتهم بالغناء معه في حفلاته العامّة، فتعوّد عليهم الجمهور وعرفهم فيما بعد، مثل: الرّاحل نادر خضر، أسامة الشيخ، ووليد زاكي الدين.

التوقيع على دفتر الرّحيل

مآثرٌ جمّة وأفضال كثيرة تحفظها ذاكرة الحركة الفنيّة لمحمود عبد العزيز طوال خمسة وعشرين عاماً قلبَ فيها موازين الحياة الفنيّة، وغيّرَ أنماطها الرّتيبة، وهزّ للنّاس وجدان حياتهم في حقبةٍ ضيّقت فيها عليهم الأجواء السياسية الملبّدة.

كتبَ محمود عبد العزيز، بما خلّفه من سيرة حافلة، حقبةً مهمّة في تاريخ الفن السوداني الحديث، بدأت منذ نهاية الثمانينيات، وتوقفت في محطة العام 2013م، بعد أن ألهمَ جيلاً كاملاً معاني الجمال والحرية والانعتاق من القيود.

صنعَ محمود حِراكاً مميّزاً على مدى حياته القصيرة، وخلقَ نظاماً فنيّاً جديداً ومؤثراً، وخلخلَ كثيراً من الثوابت والشّروط المسبقة. غنَّى لكلّ الوطن بكافة إيقاعاته وأجزائه المختلفة وأعراقِه المتباينة. كان فناناً قومياً في توجّهه وميوله وأغنياته وسلوكِه. ومثّلَ محمود حلقة وصْل مهمّة بين جيلين مختلفين. فاقَ “الحوت” أقرانَه موهبةً، وتجاوزهم سطوةً، وزادَ عنهم حظوة في قلوب الجماهير. واستطاعَ محمود بموهبته الفريدة تجميع مختلف فئات المجتمع حوله، مكوّناً قبيلة جماهيرية عُرفت بـ”الحوّاتة”؛ كسابقة نادرة في تاريخ الغناء السّوداني. وما تزال جماهير الحوّاتة تحرثُ في حقل محمود، وترعَى ذِكراه، بمشروعاتها الاجتماعية والفنيّة والإنسانية، مُجسِّدة حالة خاصّة من الارتباط بينها وبين معشوقها الرّاحل، الذي غيّبه الموت؛ لكنّ صوتَه ما فتِئ يملأ الأماكنَ شدْواً وصهيلا.