في ذكرى رحيله: هل انطفأتْ مشاعل التنوير الغنائية برحيل مصطفى سيد أحمد؟

 

(1)

يستطيع الفنُّ أن يبني ممكلة من الأخلاق والمباديء يرسخ في ذاكرة الأمم، ويُنشئ صروحاً من القِيم تهزم جبروت النسيان، وينتج ثورةً أقوى في فعلها وتأثيرها من بأسِ السلطان، ذلك إن أوتِي الصِّدق في التعبير، وحُجّة البيان عن المقاصد، وجعل منه فارسه خيلاً لبلوغ أنبل القضايا، يجوب به دروب الحياة بحثاً عن مكامن الحق ومواطن الحقيقة؛ مؤمناً بالمذهب الذي اقتداه والمنهج الذي سلكه، لا يبالي في سبيله ما يلقاه من عَنَتٍ ومشقة وترصُّدٍ ومنفى..!

وإن كان السلاح يُفني الجسوم ويبيدها، فإنّ للفنِّ نفوذاً يُفتُّ عضُد الأنفس إن قصدَ بها أذىً، وقوة الشكيمة إن أراد لها إضعافاً، ويرفع الهِمم والعزائم إن أراد لها نهوضاً، ويبعث في الأمّة روح الكفاح والإباء والأنِفة بما ينفخ فيها من العزّ إنْ هي هانت، ومن الكبرياء إنْ هي آلت إلى السقوط.

وإن كان أبو تمام يرى في السّيف أصدق أنباءً من الكتب، فإنّ مصطفى سيد أحمد اختار أن يضحد حجّته بأغانٍ كانت وما تزال تقرعُ أبواب السّلاطين فتهزُّها في عُنف، وتطرُق أحلام الفقراءِ والمهمّشين فتفتح لها مداخل جديدة إلى الحرية المسلوبة، وآفاقاً أرحب من الواقع البائس، وتهتف صارخةً ضد زمان الانكسار والخضوع والانقياد.

ما من فنانٍ مثل مصطفى سيد أحمد، جعلَ الفنَّ فارس القضية الذي يرمي ‏سِهامه فتُصيب، ويستنطق الأحرفَ والكلمات فتتداعَى وتستجيب؛ سهلةً وبليغةً ونافذة، ‏تصوِّر الأحداث والحوادث، فتُحسن تصويرها، وتُجسّد الأحلام والآلام، فتبرعُ في تجسيدها، وترسم المأساة فتُجيد رسْمها، وتُعاينُ واقع الوطن الحزين؛ مسرح ‏البؤس والطغيان والحرمان، هاتِفةَ ضدّ القهر والديكتاتورية والظلام.

ظلّ مصطفى سيد أحمد يُلقي أغنياته فتنفجر حارقةً في وجه الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي، بكلماتٍ قويةً تتجاوز ما ألِفه الناس من قولٍ وما اعتاده الشّعراء من قصائد، يُلقيها ولا يأبه إن لم تحفل بها محطات المذياع والقنوات؛ فحسْبُه أنه كان يُغني بلا خوفٍ أو موارَبة، مُخاطِباً مشاعرَ شعبه وضمير أمّته وأعيُنَ وطنِه، وما من سِتارٍ كان ليحجِبَ أغنياتِه الحِسان عن ملءِ الآفاق صهيلا.

(2)

من التقصير، وربما الإهمال، حصْر تجربة مصطفى سيد أحمد الغنائية في إطار فني ضيق، وتقييمها بمعزل عن مكوّناتها الثقافية و السياسية والفكرية الصريحة التي عبّرت عنها مواقفه وما تغنّى به من أشعار وما حفظه له الوجدان السوداني من أغان.

لم يكن الرّاحل مصطفى سيد أحمد محض فنان يتعامل مع الغناء في حدود التعبير الموسيقِي عن العواطف وخلجات القلوب، بل كرّسَ فنّه لمشروع تنويري متكامل، وأوفتْ أغنياته المضامين الروحية والإنسانية حقها حتى أضحت إحدى الخصائص البارزة لها. ومثّلت أغنياته – وما تزال – بياناتٍ صادقة باسم جماهير الفقراء و(الغُبُش) من الهامش العريض الذي انتمى إليه مصطفى والتزم بقاضاياه وأجاد التعبير عن أحلامه وآلامه واضطهاداته.

اتّسمت أغاني أبو السيد بالرِّسالية، واتّخذ منها الرّاحل وعاءً عبّأه بكرنفالات من القِيم الثورية الحاضّة على الحق والناضحة بالخير والمفعمة بالإنسانية.
مثّلت اللغة الشِّعرية التي تغنّى بها مصطفى فتحاً جديداً في عالم الغناء السوداني، واعتُبِرت ثورة بكل مقومات التغيير والتجديد. شقّت ثورة أبوالسيد طريقها الى قلوب الجماهير سريعاً لأنها – ببساطة – تصف ملامح هذه الجماهير، وتعبّر عنها، وتتحدث باسمها، وتخاطب أحلامها البسيطة وآلامها العظيمة في رمزية مكثفة أحياناً، وفسيحة أحياناً أخرى.

(3)
كانت رحلة مسيرة مصطفى سيد أحمد في الحياة قصيرة، وكذا مشواره الفني، لكنه خلّفَ إرثا ضخماً، من التنوير والوعي والفكر، وأسّسَ مشروعاً فنياً متجدداً أبدا؛  فأحلام الناس في الحُبّ والحرية والعدالة والسلام والطعام ما فتِئت تُراوح مكانها؛ وستظل.

صارعَ مصطفى المرض سنينا طويلة، وقاومه بجَلَدٍ وصبر واحتمال، بل جعل من آلامه وقوداً لفنّه؛ فكان كمن يحترق ليُضيء للآخرين الظلمات. وروَى عنه أصدقاؤه والمقرّبون منه قصصاً عجيبة عن صلابته في مجابهة المرض، واحتماله النادر للألم، وتًوْقه الدائم إلى الغناء باسم الوطن والحبيبة، فكانت أغنياته – والمرض يفتك به – تِرياقا لآذان مُحبّيه؛ تمنحهم الحياة وصاحبها يُجابه الموت ويقاوم جبروته الذي لا يهزم. هذا الاتّساق التام في مسيرة مصطفى سيد أحمد، بين تجربته الفنّية وحياته الاجتماعية، يعكس كُنه الإنسان الذي كان بين جنبَي أبوالسيد، ويُنبئ عن صِدق التزامه بما كان ينادي به ويدعو إليه. يقول الرّاحل في إحدى المقابلات الصّحفية: ” منذ وقت مبكر أدركت دور الفنان عبر التأريخ، وأنا مثل غيري خرجت من صلب شعبي، غير إني رأيت في الأغنية شيئاً مبتذلاً، إذا لم تحمل هموم هذا الشعب وتطلعاته وأمانيه، ومنذ البداية وضعت نفسي تلميذاً في مدرسة شعبي العزيز”.

(4)
شهدت الحركة الفنية في السودان، على امتداد تاريخها بروز عدد من الأسماء التي أضحت اعلاما خالدة، لكن مشروع مصطفى سيد أحمد كان مختلفا وفريدا، يتجاوز جغرافيا الطرب والتأليف الموسيقي إلى آفاق أسمى من الوعي والتنوير.

ميّزَ مصطفى سيد أحمد ثورتَه الغنائية بانتقائيته اللافتة ﻷشعار تختلف عمّا كان سائداً في أغنيات مَن سبقوه. انتقاءٌ ألقى الضوءَ على إبداع شعراء الحداثة وأفسحَ لعبقرياتهم في قلوب الناس مجلساً ومهوَى، لتزدهي أغنيات مصطفى بالصور الشِّعرية المفعمة بالحيوية، والمكتنزة بالأخيلة، مُبدلاً المعالجات الشِّعرية السّطحية بكلمات موغلة في العمق، مهمومة بقضايا النّاس والوطن، بل إنَ أغنيات مصطفى اجتازت هذه الحدود إلى العناية بالهموم الإنسانية الكبيرة، حتى قال عنه الموسيقار الأسترالي “روس بولتر” إنّ (صوته يشبه موجة عريضة تطوف بكلِّ حوافِ الكون ثم تتكسّر إلى ما لا نهاية).

لم يكتفِ مصطفى سيد أحمد بهذا الحدّ من التجديد، لكنه ارتقى أيضاً بالحسّ العاطفي والوجداني، وقدّم – مجموعة من الأعمال ذات الصّبغة الشِّعرية الباهرة وغير المألوفة، ليكتشف الوجدان السّوداني أبعاداً أخرى للحبيبة في أغنياته، امتزجَت فيها صورة الحبيبة – لديه – بالوطن، ليُضحِي كلاهما قابلاً للوصْف بذات التصاوير والتعابير المشتركة، كما هو الحال في  أغنياته (طيبة) و(نورا) و(وجيدا).

(5)

منذ رحيل مصطفى سيد أحمد، في العام 1996، لم يظهر فنانٌ بذات السِّمات والالتزام والوعي والانحياز إلى الشّعب والوطن. وعلى الرغم من وجود معظم الشّعراء الذين شيّدوا معه مملكته الفنّية، إلا أنّ أغلب إنتاجهم الشّعري كان يخرج للمتلقيين في صورة قصائدَ عذراء لم تمسّها أصوات المطربين. يعود الأمر – بلا شك – إلى خُلُوِ السّاحة من فنانٍ من نسْلِ مصطفى؛ يُدرك دور الفنّ ومسئوليته في إلهام تطلعات النّاس وإطفاء إحباطاتهم والتعبير عن مشاعرهم الجمعية. وفي هذا الشأن، لا ينبغي إغفال الجو العام الذي فرَضَته القبضة الأمنْيّة وبطش السُّلطات بالأصوات المعارِضة في كافة المنابر، ما أفرزَ واقعاً كئيباً كرَّسَ لهيمنة الغناء المبتذل والفنّ السّطحِي إلا من إشراقاتٍ قليلة كان بطلها الرّاحل محمود عبد العزيز. ورغم اختلاف الأخير عن مصطفى في مداخِله التي اخترقَ من خلالها الأبواب إلى قلوب الجماهير، إلا أنّ كليهما يلتقيان في أنّهما معاً ألهمَا جيلاً كاملاً معاني الجمال والحرية والانعتاق من القيود، وغنّيا لمعاني الإنسانية المطلقة؛ لقِيم الخير والجمال والحياة؛ لجمهورٍ تختلط فيه كل طبقات المجتمع، من طلاب الجامعات، إلى الموظفين والعمال، وحتى صِبية الورنيش.