الطلاق المرير بين السّودان وجنوب السّودان: شّوكة سامّة في قلوبنا

(نُشر هذا المقال أول مرّة في عام 2015)

بكتابِهِ االمتكامل (شّوكة سامة في قلوبنا: الطلاق المرير وغير المكتمل بين السّودان وجنوب السّودان)، يُعد المؤلف جيمس كوبنال، مراسل هيئة الإذاعة البريطانية، من بين أوّل من عملوا على تقييم تجربة دولة جنوب السودان بعد ميلادها في عام 2011. يقول المؤلف جيمس كوبنال إنّ الطلاق المرير بين “السودانَيْن” غير كامل في العديد من الأوجُه الاقتصادية والثقافية، إذ أنّ مصيرهما معاً مترابط بشكل معقّد في متاهة من العلاقات التي يصعب فكّها عن بعضها بقرار سياسي يوقّع على طاولة مفاوضات بإدارة أجنبية.

ويبدو الأثر المدمّر لهذا الطلاق غير المكتمل من خلال حياة المواطنين لا سيّما الذين يقطنون على طول المناطق الحدودية التي يعيش فيها نحو 13 مليون شخص. أناسٌ مثل عبد العزيز حسين، الرّاعي الذي تعود أصوله في نصفها الأوّل إلى قبيلة المسيرية العربية، والنّصف الآخر إلى قبيلة الدينكا، والذي اكتشف على حين غرّة أنّه أصبح بحاجة الآن إلى جواز سفر للعبور إلى جنوب السودان كي يعبُر بحيواناته لترعى هناك. أمّا قرنق توماس فهو من الجنوبيين الذين تَحَدّوا التقاليد وتزوّج سيّدة عربية مسلمة من الشمال. ولكن أصبح الحفاظ على هذا الزواج في مواجهة الحدود الاصطناعية الجديدة بين البلدين، يمثّل سؤالاً وقضية ومخاوف.

غفلة السياسيين

ما يبدو مثيراً للحَنَق، بحسب جيمس كوبنال، هو حقيقة أن السياسيين من الشمال والجنوب يبدون غافلين عن عمد للنسيج الاجتماعي والاقتصادي المتشابك بين البلدين إلى الحد الذي يتّخذان فيه ضدّ بعضهما سياسات تهدف إلى جَرِّ الكيان الآخر إلى أسفل. يتمثل أحد الأمثلة على ذلك في إيقاف جنوب السودان من تصدير النفط عبر ميناء بورتسودان في أوائل عام 2012. فأغلب القرارات بعد الانفصال كانت كارثية على اقتصادات البلدين. يجسّد هذا المثال حقيقة أن كلا البلدين بحاجة الى بعضهما البعض اقتصادياً؛ فجنوب السودان يحتاج خطوط أنابيب الخرطوم لتصدير النفط، والخرطوم تحتاج النفط متدفقاً للحصول على الدخل من إيجارات الأنابيب.

موروثات مقوّضة

لكنّ جيمس كوبنال يُبيّن في الكتاب لقرّائه أنّه على الرغم من القواسم المشتركة بين جنوب السودان و السودان، فإنّ هذا التشابه قد يكون سطحياً عندما ننظر إلى الملامح والخصائص الأخرى لهذه العلاقة والتي من أهمّها: الموروثات القديمة المرتبطة بالاستعباد العربي لمواطني جنوب السودان، والهيمنة السياسية للعرب النّيليين في السودان، والاستعمار الذي عمِل على تقويض مفاهيم المصير المشترك بين الشمال والجنوب. ولربّما أفضل ما يُعبّر عن هذا الأمر مقولة الطيب مصطفى، الصّحفي الذي يتزعّم تياراً نشِطاً كان يدعو بإصرار إلى فصْل الجنوب، والذي وصف جنوب السودان بأنّه “شوكة سامّة في قلوبنا”، وهي العبارة التي يأخذ الكتاب عنوانه منها.

واستناداً إلى مقابلاتٍ ونقاشاتٍ وحواراتٍ مع الكثير من السّودانيين في الدّولتين، من مختلف مناحي الحياة، يقول جيمس كوبنال، إنّه إذا فشل هذا الجيل في بناء الجسور بين جنوب السودان والسّودان الآن، فسيُضحِي من المستبعد جداً في المستقبل القيام بأي عملٍ فذ على هذا النّحو. ويستند كوبنال، على وجه الخصوص، في وجهة نظره هذه إلى أنّ الجيل القادم في جنوب السودان نشأ الجزء الأكبر منهم في كينيا وأوغندا، ولا يجمعهم إلا القليل من القواسم المشتركة مع نظرائهم في السّودان، بكل ما تحمله العبارة حرفياً من معنى، إذ إنّهم من حيث المبدأ يتحدثون الإنجليزية والسواحلية، وفلسفياً هم أكثر ميلاً إلى شرق أفريقيا من العالم العربي.

واقع كئيب

وانعكاساً لانفصال جنوب السودان، يُشير كوبنال إلى الواقع الكئيب، مُذكّراً أنّ الاستقلال لم يُسفر عن تحسين النتائج المرجوّة لجنوب السودان. ففي حين أن هناك فوائد ملموسة وإيجابية لجنوب السودان، مثل زيادة معدلات الالتحاق في التعليم الابتدائي، فإنّ الدولة عموماً، غائبة إلى حد كبير عن حياة الملايين من مواطني جنوب السودان. تقديم الخدمات، على سبيل المثال، هو أمر لا وجود له في جميع القطاعات تقريباً، ومعظم أساسيات حقوق الإنسان الأساسية غير متوفرة. ويُلقِي كوبنال باللّوم على الحكومة مُستشهداً بعدد كبير من الأزمات المنتشرة التي يُرجعها إلى قلة الخبرة، والفساد، والمحسوبية وضعف أداء الحكومة.

وفي سياق الصّراع الدّائر في جنوب السودان، يوثّق كوبنال للأوضاع بملاحظته البنبوية قائلاً إنّ نظام سلفا كير ما بعد استقلال جنوب السودان أصبح نسخة طبق الأصل من نظام الخرطوم في استخدام القمع ومصادرة الحريات، وأنّه مرشّح ليتفوّق عليه في المستقبل إذا ما ظلّت الأوضاع على ما هي عليه الآن. ويُشير كوبنال إلى أنّ نظامَي الحُكم في البلدين يلتقيان في قواسم عديدة منها كبْت الحريّات الإعلامية وعدم الاعتراف بالتعدّدية الديمقراطية، قائلاً إنّ الحركة الشعبية لا يمكن تشبه تماماً حزب المؤتمر الوطني في السّودان. ويؤكد كوبنال أنّ سيناريو الفساد في جوبا يتجلى بوضوح فاضح في أنّ مَن سمّاهم “القلة الجديدة” في البلاد يعيشون في رفاهٍ على حساب الملايين من شعب جنوب السّودان، وقد عزّز الغُلو في الفساد الاستياء العام والتمرّد في اجزاء مختلفة من البلاد.

التطلع إلى المستقبل

وبالنّظر إلى المستقبل، يقول كوبنال إنّه من خلال نظرة العديد من الناس الذين قابلهم لغرض إصدار الكتاب، فإنّ الوضع الرّاهن في أسلوب القيادة وسياساتها يحتاج إلى تغيير في كلا البلدين. ففيما يتعلق جنوب السودان، أعربَ كوبنال عن الخوف من أن انعدام الديمقراطية يعني أنّ التغيير سيأتي عن طريق وسائل عنيفة، ومن خلال التوجّه نحو المسارات العِرقية، ويشهد على هذه الحقيقة العنف المستمر منذ ديسمبر 2013.

وبشأن الخرطوم، يؤكد جيمس كوبنال، مراسل هيئة الإذاعة البريطانية الذي أمضى ثلاث سنوات من التغطية الّصّحفية في كلا البلدين، أنّ أكبر تهديد للنظام الحاكم سيكون نابعاً من داخل حزب المؤتمر الوطني نفسه. ولكن، كما يقول، فإنّه من غير المرجّح أن يُغيِّر ذلك خصائص النظام وسماته الأساسية.