التضخم فوق 422%.. فاتورة باهظة يدفعها المواطن لإتمام الإصلاحات الاقتصادية في السودان
(نُشر هذا المقال على منصة فوربس الشرق الأوسط في أغسطس 2021)
قفز التضخم في السودان إلى 422.8% لشهر يوليو/ تموز، مقارنة بنسبة 412.8% لشهر يونيو/ حزيران من عام 2021، بارتفاع قدره 10 نقاط، وفقًا لما أعلنه الجهاز المركزي للإحصاء بالبلاد.
ويعيش سكان البلاد، البالغ عددهم نحو 40 مليون نسمة، تحت ضغوط اقتصادية كبيرة بعد أن بدأت الحكومة، منذ العام الماضي، تنفيذ إصلاحات سريعة وموسعة شملت عددًا من التدابير الاقتصادية الرئيسية، من بينها رفع الدعم عن الوقود وخفض سعر صرف العملة الوطنية بشكل حاد وإلغاء سعر الصرف الجمركي، في إطار برنامج إصلاح ضروري للإعفاء من الديون بمراقبة صندوق النقد الدولي.
برنامج الإصلاح الاقتصادي بمراقبة صندوق النقد الدولي
- يسعى السودان، منذ أن رفعت الولايات المتحدة الأميركية اسمه عن قائمة الدول الراعية للإرهاب، إلى إجراء إصلاحات اقتصادية هيكلية بما يتماشى مع متطلبات صندوق النقد الدولي كي يتسنى للدولة الأفريقية الحصول على مساعدات من أطراف دولية عديدة.
- خفض بنك السودان المركزي، في فبراير/ شباط الماضي، قيمة العملة الوطنية معلنًا عن نظام جديد ينتهج سعر الصرف المرن المدار.
- أنهى السودان تسوية ديونه لدى البنك الدولي من خلال قرض مؤقت من الحكومة الأميركية بقيمة 1.15 مليار دولار، في مارس/ آذار الماضي.
- وافق صندوق النقد الدولي في مايو/ أيار الماضي على خطة تمويل ستسهم في حشد الموارد اللازمة لكي يغطي الصندوق حصته في تخفيف ديون السودان.
- اجتاز السودان، في الشهر نفسه، المراجعة الثانية بموجب البرنامج الذي يشرف عليه خبراء صندوق النقد الدولي، في خطوة جديدة نحو تخفيف ديونه، التي تتجاوز 50 مليار دولار.
- أعلنت الحكومة في يونيو/ حزيران رفع الدعم بشكل كامل عن الوقود، مع استمرار دعم القمح وغاز الطهي وزيت الوقود الذي يستخدم في إنتاج الكهرباء.
- ألغت الحكومة كذلك سعر الصرف الجمركي المستخدم في حساب رسوم الاستيراد، في خطوة قالت إنها الأخيرة في عملية تخفيض قيمة العملة الوطنية.
السودان ينضم إلى مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون
تراكمت على السودان متأخرات ديون ضخمة لكنه حقق تقدمًا سريعًا نحو شطب معظمها في إطار برنامج صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للدول الفقيرة المثقلة بالديون، ما سيفتح له المجال مجددًا لتمويل دولي منخفض التكلفة يحتاجه بشدة. وتعمل الخرطوم، بخطى متسارعة، على تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي يراقبه صندوق النقد الدولي، لإنقاذ اقتصاده المتعثر. وكان صندوق النقد والبنك الدوليين وافقا، في يونيو/ حزيران الماضي، على تأهّل السودان للحصول على تخفيف لأعباء الديون من خلال المبادرة المعززة المعنية بالبلدان الفقيرة المثقلة بالديون (هيبيك). ومن شأن تخفيف أعباء الديون أن يساعد السودان على تحسين أوضاعه الاقتصادية والحد من الفقر ورفع مستويات المعيشة.
يهدف التحليل المعني بتخفيف أعباء الديون الذي يرتكز على البيانات التقديرية لنهاية عام 2020 إلى خفض الدين الخارجي العام الذي تضمنه الحكومة في السودان إلى المستوى الحدي الذي تستهدفه مبادرة “هيبيك” وقدره 150% من الصادرات.
واستنادًا إلى هذا السيناريو، مع افتراض التطبيق الكامل لتخفيف أعباء الديون ومشاركة جميع الدائنين فيه، يمكن تحقيق خفض تقديري في ديون السودان عند بلوغ نقطة الإنجاز من 56 مليار دولار إلى 6 مليارات دولار، بحسب الخطة التي وافق عليها صندوق النقد.
تمويل العجز في الموازنة وراء التضخم الجامح
ربط الخبير في شؤون المصارف السودانية، الساري سليمان، في تصريح لفوربس الشرق الأوسط، أسباب ارتفاع معدل التضخم في البلاد خلال الفترة السابقة بقيام الحكومة السابقة بطباعة النقود لسد عجز الموازنة، متوقعًا أن تبدأ معدلات التضخم العالية بالانخفاض تدريجيًا لتتراجع إلى دون 10% في الأجل المتوسط، بالنظر إلى مساعي الحكومة الانتقالية وبرامجها الإصلاحية الجارية.
قال الساري إن معدل التضخم يقِل بمقدار نسبة تمويل العجز في الموازنة باستخدام موارد حقيقية. وقد وفّر تحرير الحكومة أسعار الوقود، قدرًا من الموارد النقدية التي أسهمت في استقرار سعر الصرف. وفرضت حكومة الخرطوم، ضريبة قيمة مضافة على المحروقات تبلغ حوالي 14%، ما وفّر موارد إضافية لمقابلة احتياجات الخدمات العامة الأخرى، وقللت هذه الإجراءات من الحاجة إلى الاستدانة من البنك المركزي.
وتوقع الساري أن تكبح هذه التدابير جماح التضخم خلال الفترة المقبلة، خصوصا إذا اتخذت الحكومة المزيد من الخطوات لسد العجز في الموازنة. وفي هذا السياق، أشار الساري أيضًا إلى العجز في ميزانية الكهرباء، التي تباع بأسعار أقل من تكلفتها الحقيقية. وأوضح أن رفع الدعم عن الكهرباء، للفئات المقتدرة على الأقل، من شأنه المساهمة كذلك في تقليل عجز الموازنة، وخفض معدل التضخم بدرجة أكبر وتحقيق الاستقرار المنشود في سعر الصرف.
يمكن أن يشهد الاقتصاد السوداني استقرارًا نسبيًا ونموًا موجبًا خلال الأعوام المقبلة، إذا ما ركزت الحكومة جهودها وبرامجها الإصلاحية على معالجة الاختلالات الهيكلية، واتجهت إلى تعزيز الإنتاج والصادرات وعملت على الحد من معدلات البطالة العالية، واستهدفت تطوير بنية الاقتصاد بما يساعد على جذب الاستثمارات الأجنبية، وفقاً للخبير المصرفي الساري سليمان. وبالنظر إلى اتجاه الدولة لتبني سياسات رفع الأعباء عن الموازنة بإلغاء الدعم وتحرير أسعار الوقود، وانفتاح البلاد على قنوات التمويل الدولية لتلقي المنح والقروض، يمكن أن يكون السودان على أعتاب مرحلة جديدة تتحسن فيها المؤشرات الاقتصادية الكلية للدولة وتحقق الاستفادة القصوى من مواردها الكامنة.
إصلاحات مؤلمة لكنها ضرورية
ترتّب على رفع الدعم عن السلع الأساسية والوقود، فضلًا عن خفض قيمة الجنيه وإلغاء سعر الصرف الجمركي، ارتفاع أسعار السلع بشكل كبير ما شكّل عبئًا إضافيًا، على ذوي الدخل المحدود والمتوسط في بلد يقع 46.5% من سكانه تحت خط الفقر، وفقًا لأحدث تحليل صادر عن البنك الدولي.
غير أن خبير الأسواق المالية عمرو عبده، اعتبر في تصريح لفوربس الشرق الأوسط، أن الإصلاحات الاقتصادية الأخيرة في السودان، وأهمها توحيد سعر الصرف والتحول من سعر ثابت إلى سعر صرف مرن مُدار، وإعادة توجيه الدعم من دعم استهلاكي إلى دعم مالي مباشر للأسر، بالغة الأهمية رغم تبعاتها القاسية على معيشة الناس، حيث إنها ضرورية لإنقاذ الاقتصاد وإزالة التشوهات التي كانت تكبله.
أشار عبدو أيضًا إلى أن نتائج هذه الإصلاحات بدأت تظهر على الاقتصاد الكلي من ناحية ثبات سعر الصرف وتشجيع السودانيين العاملين في الخارج لتحويل أموالهم ومدخراتهم عبر القنوات الرسمية، وكذلك الحد من حاجة الحكومة لتمويل عجز الموازنة بزيادة الكتلة النقدية الذي يزيد معدل التضخم ويدمر القيمة الشرائية للأسر.
شدّد عبدو على أنّ هذه الإصلاحات كانت كذلك من متطلبات برنامج صندوق النقد الدولي لتأهيل السودان لنقطة إعفائه من ديونه، وهو ما حدث بالفعل. إذ بات بإمكان الخرطوم الآن العودة إلى أسواق المال العالمية والإقتراض مستفيدة من أدنى مستويات فوائد هي الأدنى تاريخيًا، وما كان ذلك ليتحقق لولا إقدام الحكومة الحالية على اتخاذ هذه التدابير التي حسّنت مكانة السودان المالية والائتمانية، وأصلحت مناخ الأعمال وجعلته ملائمًا مرة أخرى لجذب المستثمرين العالميين المهتمين بالفرص الاستثمارية في الاقتصادات الناشئة.
الاستقرار يتطلب تدابير تنظيمية أخرى
أبدى الخبير الاقتصادي والرئيس التنفيذي لمجموعة بنك فيصل الإسلامي، معاوية أحمد الأمين، تفاؤله بقدرة النظام المصرفي السوداني على كبح جماح السوق الموازية. وقال لفوربس الشرق الأوسط إن مضاربات النقد الأجنبي أسهمت في ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الجنيه السوداني بصورة هائلة ومستمرة، ما زاد من وطأة الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد.
أضاف الأمين أنه بعد تطبيق سياسة مزادات سعر الصرف شهد سعر صرف الدولار في السودان استقرارًا ملحوظًا بعد تحجيم نشاط السوق السوداء.
وتوقع أن تنجح هذه السياسة على المدى القصير، لكن استمرار الاستقرار يلزمه اتخاذ تدابير تنظيمية أخرى واستثمارات جادة وجديدة في السوق السودانية، وهو ما يتطلب جهودًا مشتركة من جانب الحكومة والقطاع الخاص، فضلًا عن إعادة تنظيم عمل القطاعين المالي والاقتصادي والقيام بمراجعة شاملة لسياسات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتعزيز الارتباط بالأسواق المالية العالمية.
اقتصاد السودان وجائحة كوفيد-19
رغم ما سجله السودان من انكماش اقتصادي للسنة الثالثة على التوالي في عام 2020 (-3,6%)، فقد ظل الاقتصاد أكثر تماسكًا من اقتصاد عدد من دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وفقًا لصندوق النقد الدولي، على الرغم من تدابير التخفيف من آثار كوفيد-19 وتعرّض البلاد لفيضانات بمستويات قياسية في العام الماضي. ويستمر التضخم في الارتفاع على أساس التغير السنوي بسبب التوسع الكبير في تسييل عجز المالية العامة، وزاد تفاقمًا بسبب نقص الغذاء والوقود قبل قرار الحكومة برفع الدعم عن الوقود. ومن المتوقع أن ينتعش النمو في 2021 إزاء تراجع التضخم تحت تأثير انخفاض عجز المالية العامة وتَقَلص الحاجة إلى التسييل مع زيادة التمويل بالمِنح.
وأدت جائحة كوفيد-19 إلى تعقيد التحديات التي تواجه الحكومة الانتقالية في البلاد. إذ يبلغ العدد الرسمي المؤكد للإصابات بالفيروس 37,564 إصابة بالإضافة إلى 2,816 حالة وفاة وفقاً لتقرير وزارة الصحة الاتحادية الصادر في 16 أغسطس/ آب 2021. ونظرا لتسارع معدل الإصابة، قامت الحكومة في 18 مايو/ أيار الماضي بتعليق الدراسة في الجامعات والمدارس لمدة شهر وفرضت حظرًا على بعض التجمعات الجماهيرية المحددة.